بعد أن ألقى ذلك المتسول بكلماته تلك في وجهي , شعرت بالضيق الشديد فاستدرت ومشيت في الطريق المعاكس لطريقه , ناداني ولكني قلت له بهدوء : بإمكاني العوده وحدي لاحقا لذا ارحل .
بقيت أمشي وجملته تلك ( اعتادي على العيش ترابا) تتردد في رأسي , كنت أشعر بالكآبه , وكآبتي أجبرتني على التجول دون طريق ودون هدف , أتساءل ترى هل حقا ينبغي أن أعيش ترابا ؟! , وأثناء ضجيج حديثي مع نفسي جذبتني رائحة الذكريات , فأنا لا أخطئ أبدا في رائحة القهوه .. تلك القهوة الفرنسية التي ملكت قلبي بسبب غياب والداي الدائم , وذلك لأنها تذكرني برائحة الصباح الدافيء الذي يمتاز بعطر وجودهم فيه, كم أشعر بالغضب منهم .. وكم أشتاق للقهوه حين تذكرني بهم , وكم أتمنى لو أنهم قاموا باعدادي جيدا لمواجهة هذه الحياة قبل أن أتذوق بعدهم .
أخذني التتبع لرائحة القهوه وخليط الذكريات المر حيث ذلك المقهى , دخلت ووقفت خلف الناس في صفوف الطلبات , وكلما اقترب دوري أخرج لأعود لآخر ذلك الصف من الناس , لم أكن أملك المال لشراء القهوه ولكني كنت أريد أن أقتل وقتي في استنشاق الماضي ..لعل ذلك يجعل المستقبل يقف قليلا بي .
بعد قليل وأثناء عودتي مره أخرى لآخر الصف, لفت نظري في ذلك الصف الآخر بجانب صفي .. ذلك الشاب حين دخل الى المقهى .. كم هو وسيم وكم هو أنيق , أخذت أدقق في تفاصيله , كان يرتدي بنطال أسود وقميص داكن ترك ياقته مفتوحه بعفويه شديده .. و ذلك الوشاح حول رقبته كم يلائم معطفه الأسود ذو الأزرة الذهبيه .. وأنفه يشبه كثيرا حد السيف , كل ملامحه كانت متناسقه وكأنها رسما لا بشر, أما خصلات شعره , فقد كانت تتعارك فوق جبهته تحاول جاهده أن تلمس رموش عينيه الحادتين النظر والتي تُحاكي الثقه في خطواته .. بقيت أنظر له وأتابع حركاته باهتمام وكأن في تفاصيله الوطن الذي أشتاق له , كنت أعلم جيدا من خلال لمعة حذائه أنه من عالمي الذي نُفيت منه .
مضى بي ذلك الصف حتى أتى دوري دون أن أشعر .. فقد كنت له أنظر .. , ونبهني صوت تلك النادله وهي تسألني عن طلبي .. فأجبتها بفكر شارد : لا شيء شكرا .
خرجت من الصف واتجهت الى باب المقهى , ولكن قبل أن أخرج سمعت النادله وهي تخاطب ذلك الأنيق الذي كنت أنظر له قائله : تفضل بالجلوس سيدي سأحضر طلبك المعتاد ككل يوم .
ثم أجابها هو : شكرا لك .. ولكن اجعلي السكر منفصل عن قهوتي الفرنسيه رجاءاً .
عندها ابتسمت وأخبرت نفسي بأنه حتما ذلك نوعي المفضل من الرجال .
خرجت من ذلك المقهى وجلست قليلا على أحد الكراسي الموجوده على الطريق , لم أشأ العوده الى ذلك البيت مبكرا , ولكني في النهايه اضطررت للعوده , وما ان دخلت ذلك المنزل حتى وجدت ذلك المتسول يقف من على تلك الأريكه في الصاله , ليتجه لي صارخا في وجهي قائلا : أين كنتي ؟ .
سألت نفسي عندها : الاهي كيف أرى ملاكا وشيطانا في نفس اليوم؟ .
ثم أجبته: ما شأنك .. أعتقد أنك تعشق التخلص مني فلما أنت غاضب ؟.
تدخلت صديقتي عندها وقالت : قد كان قلقا بعض الشيء .
نظرت لها بغضب وقلت : لم يقلق والداي بشأني حتى يفعل هو .
ثم نظرت له بحده رغم دموعي المختنقه في عيناي وقلت : كما أني أحاول أن اعتاد على العيش ترابا .. أليست تلك نصيحتك ؟.
تركتهم بعد ذلك واتجهت للغرفه , وما ان أغلقت الباب حتى تركت دموعي العنان , ثم تذكرت ذلك الشاب الأنيق وقهوته فابتسمت .. لا أعلم لما رسمت ملامحه في جفني حتى نمت .. ولكني كلما تذكرته نسيت كم تألمت ..
في اليوم التالي ارتديت معطفي وأخذت حقيبتي و مظلتي و خرجت مبكرا , فقد اتخذت قرار بأن أبيع ساعة يدي التي أرسلها لي والدي هدية عيد مولدي العام الماضي.
و أثناء بيعي لها وأنا أسلمها للبائع في ذلك المحل كنت أختنق , ولكن جملة ذلك المتسول عادت لتصرخ في رأسي (يا نجمة من السماء سقطتي .. اعتادي على العيش ترابا) عندها تركت تلك الساعه .. وقبضت مقابلها من المال , وخرجت مسرعه لأشرب قهوتي وأتناول افطارا لم أتناوله من مده .
اتجهت الى ذلك المقهى , وقررت البقاء فيه حتى يأتي ذلك الأنيق , فتلك النادله بالأمس قالت أنه يتناول قهوته اليوميه هنا .. عندها ربما أستطيع حفظ ملامحه أكثر, لأتذكرها حين تغلبني دموعي فأبتسم .
وفعلا بقيت هناك , أتابع الطريق من خلف زجاج النوافذ في ذلك المقهى , وما ان جلبت لي النادله قهوتي ابتسمت ابتسامة طفل يخجل من فرحته حين يعطيه أحدهم هديه .. ولم أكن طوال حياتي أتخيل أن أجد سعادتي في فنجان من القهوه فحسب .
ومضى الوقت ..حتى اختفت الشمس وبدأت الغيوم تأخذ مكانها في السماء استعدادا لمهاجمة الأرض بوابل من المطر .. وفجأه انفتح باب ذلك المقهى ليدخل ذلك الأنيق , ولكنه بدا قلقا حيث كان يتجه نحو النافذه كل خمس دقائق ليرى السماء.. وما ان أمطرت حتى بدا عليه الاستياء.. .
بقي ذلك الأنيق يراقب المطر من النوافذ وبقيت أنا أراقبه حتى حان وقت اغلاق ذلك المقهى , ففتحت مظلتي وخرجت , توقفت قليلا على الرصيف أدعو الله أن أجد سيارة أجره في هذا المطر الشديد , التفت لأجد ذلك الأنيق ما زال يقف تحت المظله الكبيره فوق مدخل ذلك المقهى فعرفت أن قلقه وترقبه للسماء طوال الوقت .. كان بسبب عدم حمله لمظله .
لاحظت عندها أني عدت لمراقبته مرة أخرى ناسيه أمر سيارة الأجره .. وهو أيضا بدا وكأنه انتبه لنظراتي له من ما أثار ارتباكي.
بعد ثواني من وقوف ذلك الأنيق هناك وجدته يستعد للركض تحت ذلك المطر وفجأة :
تحت لحن المطر...
هناك على الرصيف ..
أراه قد عبر...
أراقبه وأتساءل..
هل أمضي اليه بمظلتي؟ ..
أم أنتظر...
تحت لحن المطر...
باردٌ قلبي والشتاء خطر...
فحبيبي أمامي وبالحب أحتضر...
هل يراقبني كما أراقبه؟..
أم أن لفتاتي تلفت النظر...
بقيت أراجع نفسي.. تحت لحن المطر...
حتى مضى في طريقه..
وفي وسط الشارع عثر...
هوا قلبي سقوطا ..
وثار عقلي وأمر...
ركضت ..
ثم انزلقت ..
وعليه سقطت ..
غطتنا المظله ..
وبين أحضانه مات الضجر ...
تحت لحن المطر ...
عَثرَ هو..
فقلبي عثر...
ترى من هذا الأنيق؟ وماذا ستكون ردة فعله بعد أن رماني المطر في أحضانه فجأه؟ , وهل أحببته من النظرة الأولى فعلا؟ أم أني أشتاق لوطن فقدته .. فوجدته (صدفه) بين وسامته والأناقه؟!! تابعوني وتابعوا ملاكي الأنيق في الجزء القادم من (شتاء قلبي).
بقلمي
سيدة القصر
(سارة بنت طلال)