بعد أن رماني المطر في أحضانه فجأه و غطتنا المظله .. لم يلبث ذلك المشهد ثواني حتى عصفت رياح كبريائي غيرة على ذلك القلب بداخلي , ودفع هواء غروري تلك المظله ووقفت بسرعه لأبتعد عن ذلك الملاك المذهول أركض بعيدا تاركة خلفي مظلتي وصوته الذي ناداني قائلا : انتظري ..
لكني لم ألتفت يومها الا لصوت الكبرياء وهو يعنف ذلك الخجل الذي اعترى غروري بشده , أخذت أركض تحت المطر .. يُسقطني ويُغرقني.. يُبكيني ويَحتويني حتى أقف وأنتصر..
وما ان وصلت الى المنزل حتى وقفت أمام الباب, طرقته وكنت أعلم أن الوقت أظلم فربما لا يفتح أحد .. ولكن صديقتي فتحت لي الباب وأدخلتني .
سألتني حين دخلت متفاجأه: يا الهي لما أنتي مبلله الى هذا الحد ألم تأخذي مظلتك معك ؟!! ..
ثم التفتت الى ذلك المتسول وهو ممدد على أريكته في تلك الصاله كالمعتاد وأكملت تسأله : هل أنت بخير حقا أم تحتاج أن أبقى معك؟.
أجابها باقتضاب : هل تعتقدي أني أحد كبار السن الذين تقومين بتمريضهم في ذلك المشفى! .. اذهبي بسرعه الى عملك ولا تزعجيني .
عندها كنت قد انتهيت من خلع حذائي المبلل ودخلت الى غرفتي التي أصبحت سجن ليلي.. فما كنت أنام فيها ولا كنت في وعيي .. فدموعي المأسورة بصمت قد حفظت زوايا تلك الغرفه .
ولكن تلك الليله لم تشهد دموعي ككل ليله فحسب , بل شهدت أيضا أنينه , فحين كانت تحاول عيناي اغراء النوم عله يحتضنها فتهدأ دموعي , سمعت صوت أنين ذلك المتسول يعلو في تلك الصاله .
في البدايه حاولت تجاهل الأمر ولكني لم أستطع أن أتجاهله لمده طويله , فرغم خلافاتي معه الا أني أعلم جيدا كم بقاء الشخص وحيدا مع مرضه مؤلم جدا , لذا فتحت باب غرفتي وسحبت خطواتي اليه فوجدته نائم على تلك الأريكه ويبدو شاحب و متعب ..لم يكن يشعر بوجودي , تشجعت عندها و وضعت يدي على رأسه فأدركت اصابته بالحمى , نظرت له أتساءل ماذا أفعل !..
أحضرت القليل من الماء البارد وأخذت أمسح به على جبهته ووجهه , كم كان يبدو جادا حتى وهو نائم , أخذ الوقت يمضي وانا أحاول خفض درجة حرارة جسده بالماء البارد وبعد أن بدأت في الانخفاض تدريجيا , جلبت له ذلك الغطاء من على سريري لأغطيه جيدا.. فلم يكن غطاءه في هذا البرد القارص كافي أبدا , و أثناء محاولتي تغطية يديه أخذت أتأمل الشحم الأسود على كفوفه وعلى أظافره المتكسره .
أخبرت نفسي قائله : يا الهي كم تعاني هاتين اليدين معه. , لم أستطيع تحمل رؤية هذا البؤس كله في أظافره.
ذهبت عندها وأحضرت مبرد أظافري وقمت ببرد أظافره بهدوء حتى لا يشعر بي , وبعد أن انتهيت تفاجأت حين رفعت رأسي ونظرت له لأجد عيناه مفتوحتان تنظران لي مدركتان وجودي .. وقتها رغم ارتباكي الا اني قلت ببرود : أعتقد أنك بخير الآن كانت مجرد حمى .
ثم وقفت لأذهب لغرفتي ولكنه أمسك بيدي فسحبتها بسرعه لأدخل غرفتي , لم أفكر كثيرا فقد كنت متعبه وذلك ما ساعدني على النوم بسرعه وبعمق , كانت هذه أول مره أنام دون أن أفكر بشيء .
في اليوم التالي حين استيقظت بدأت أفكر بكل أحداث الأمس , منذ أن فقدت مظلتي وأنا أحاول حماية ذلك الملاك حتى انتهى بي الأمر الى تمريض ذلك الشيطان والمكوث بجانبه طوال الليل .
لذا قررت أن لا أذهب مرة أخرى الى ذاك المقهى كي لا أرى ملاكي الأنيق خاصة بعد أن أحرجت نفسي وجعلت كبريائي يثور علي , وايضا قررت التهرب من شيطاني المتسول ولكني لم أكن أعرف لماذا قررت ذلك .
ومضت تلك الليله بعد اتخاذي هذه القرارات , وبعد عدة أيام كنت أقوم بتحضير ملابسي حتى أخرج لأبحث عن عمل فحقا لا أود أن أبيع شيئا آخر من أشيائي , وأثناء تحضيري لملابسي سمعت صوت طرق على باب الغرفه , فصرخت ظنا مني أنها صديقتي وقلت : ادخلي قد تركت الباب مفتوحا .
سمعت صوت ذلك المتسول وهو يقول : هذا أنا هل بامكاني الدخول .
فنظرت الى الغرفه لأجد حاجياتي مبعثره بكل مكان مما جعلني أصرخ : لا .. لا تدخل .. ثم أكملت: لحظة واحده.
أنطلقت وفتحت الباب ثم قلت : هل كنت تود شيئا .
أعطاني الكوب الذي كان في يده وقال : أحضرت لك القهوه .
أخذتها منه وأنا متعجبه وقلت : شكرا لك .
ولأني شعرت بالارتباك الشديد من تصرفه هذا , تركته و أغلقت الباب في وجهه ثم عاودت فتحه مره أخرى وقلت : عذرا هل كنت تود شيئا آخر؟ .
فابتسم بتوتر واضح جدا وقال : الحقيقه أني أود ...
فقاطعته قائله : لا داعي لشكري اذا كان هذا ما تود قوله .
فرد بارتباك شديد : لا لم أود ذلك .. أقصد نعم بالطبع أشكرك ولكن في الحقيقه هناك مهرجان يُقيمه الحي كل سنه وكنت أود دعوتك .. أعني ان كنتي ترغبين بذلك طبعا .
ازداد تعجبي فقلت له : كوب القهوه ساخن بعض الشيء سأضعه على الطاوله داخل الغرفه لحظة واحده وأعود.
ثم أغلقت باب الغرفة مجددا وأنا أحدث نفسي : يا الهي أنا أتهرب منه وهو يود دعوتي لمهرجان .. ماذا أقول له ؟!, حسنا سأقول بكل بساطه أني سأخرج للبحث عن وظيفه وانتهى الأمر ..
ثم فتحت الباب مره أخرى لأجد في عينيه نظرة تساؤل عن ما أحمله في يدي , فلشدة غبائي وارتباكي نسيت وضع كوب القهوة على الطاوله وكنت ما زلت أحمله في يدي مما جعلني أود أن أتخلص من نظرة التساؤل تلك في عينيه وأقول : حسنا سأذهب معك الى المهرجان .. ثم أكملت أسأل : هل هو الليله ؟ .
فأجابني بابتسامه : نعم الليله .. سأذهب الى عملي الآن وسأحضر لاصطحابك في الثامنه , اتفقنا؟ .
فأجبته : حسنا .
دخلت وأغلقت باب الغرفه وأنا أشعر بالغباء الشديد , وكم كنت أود لو أستطيع رمي ذلك الكوب من القهوه في الجدار , ولكن ذلك لن يفيدني بشيء فقد أخبرته أني سأذهب معه , لذا كل مافعلته وقتها هو الاتصال بصديقتي لأعرف ما ان كانت ستأتي معنا , ولكنها أجابتني متفاجأه تسأل : هل حقا أخي قام بدعوتك .
فأجبتها : نعم قام بذلك ..ومن الأفضل لك أن تحضري لأني لا أود الذهاب معه بمفردي .
قالت لي : حسنا سألحق بكما ما ان أنتهي من ساعات عملي .. وبالمناسبه أود فقط أن أخبرك أنك أول فتاة يدعوها أخي لمناسبة ما .
رددت عليها بنفس الطريقه قائله : بالمناسبه ..اخيك ليس أول من يدعوني لمناسبة ما .. لذا أنا لا أهتم .
ضحكت ثم قالت بطريقه ساخره : حسنا ألقاكما معا على خير .. وداعا .
وفي تلك الليله ارتديت فستان من الصوف ناعم المظهر , أقرب لونه للون التفاح الأخضر , واكتفيت بالمكياج الوردي البسيط ورفع شعري على طريقة ذيل الحصان لأبرز ملامحي أكثر .
وما ان أصبحت الساعه الثامنه تماما حتى سمعت طرقه على باب غرفتي , فارتديت معطفي الأبيض و خرجت و أنا أقول له : انا جاهزه .
خرجنا نمشي في ذلك الطريق حيث أخبرني بأن المهرجان ليس بعيد , بل في نفس الحي, كونه مهرجان الحي السنوي .. قلت له أتساءل : ترى هل لباسي مناسب لما تسميه مهرجان .
فابتسم وقال: اسمه مهرجان ولم أقوم أنا بتسميته هكذا .. كما أن لباسك مناسب .. تشبهين دوما الدميه .
فقلت له : لما ترى أني أشبه الدميه ؟.
أجابني : لا أعلم .. فقط لا أعتقد أن هناك شيئا لا يناسبك فلأكون صريح أنت حقا جميله .
سألته : اذن لما تناديني بالتافهه والدمية الفارغه دوما ؟ .
فقال : وانتِ لما تناديني بالمتسول ؟ .
انقطع حديثنا هذا حين بدأنا بالاقتراب من حديقة الحي العامه .. والتي كان المهرجان يقام بها , ولشدة الازدحام أصبح ذلك المتسول يتقدمني بخطوات , و لأني أكره الزحام وأعاني من ضيق التنفس به بدأت أخاف أن أفقد خطواته ويبتعد فلا أصبح قادره على رؤيته , وهذا ما جعلني أسحب طرف معطفه لأتمسك به, وعندها التفت الي هو و أمسك بيدي وسحبني باتجاهه فأدركت من نظرته الجاده أنه يتحداني أن أفقده .
وما ان دخلنا حتى وجدت الكثير من الناس يركضون باتجاه المتسول لالقاء التحية عليه ونظراتهم تسأل ترى من أنا ؟ ولما أنا معه؟ .. كما أني لاحظت أنه يملك الكثير من المعجبات من ما جعلني أتساءل لما لم يدعو احداهن !! .
أخذ يعرفني بكل شخص يلقي عليه التحية , ثم أخذنا نتجول لأرى الكثير من الفعاليات , فالموسيقى تعلو المكان , هناك من يرقص , وهناك من يغني , وهناك من يتراهن على ورق اللعب , وهناك الكثير من الباعه المتجولين , اشترى لي متسولي المتعجرف بعض الشطائر والعصير وأخبرني
قائلا : هذه ألذ شطائر في المدينه بأكملها .
قلت له : أتعلم هذه أول مره أحضر فيها الى مهرجان .
ابتسم وسألني : هل أحببته ؟ .
قلت : نعم كثيرا ولكني أحببت الشطائر أكثر .
ضحك وقال مازحا : هي لا تباع الا في المهرجان فقط , لذا لا تطلبي مني احضارها لك في يوم آخر .
ضحكت وقلت : حسنا سأحاول تصديق هذا ولن أطلبها .
أشار لي عندها الى ذلك الرجل المسن وقال : هذا ناقل أخبار الحي بأكمله , اذا أردتي أن تعرفي أي خبر ..فما عليك الا سؤاله وسيغنيك عن الصحف اليوميه .. ثم أستطرد قائلا : يا الهي ها هو قادم باتجاهنا استعدي للملل .
ضحكت بشده لرؤيتي ذلك المتسول يتذمر من قدوم الرجل المسن .
وما ان حضر ذلك المسن حتى قال موجها كلامه للمتسول ومشيرا الي : يا الهي ما هذا الجمال ؟ ما الذي فعلته أيها المحظوظ لتخرج معك نجمة السينما هذه ؟
شكرته على اطرائه ثم حاولت أن أقول بأني لا أخرج مع ذلك المتسول وأني فقط صديقة أخته التي ستأتي بعد قليل ولكن ذلك المتسول قاطعني وسأل المسن عن سبب اقامة المهرجان مبكرا هذه السنه ؟ .
فأجابه قائلا : ابن رئيس الحي قد عاد أخيرا من سفره ..يقولون بأنه هنا منذ ثلاثة أسابيع فقط , لذلك رأى رئيس الحي أن يقيم مهرجاننا هذه السنه على شرف حضور ابنه .. ألم تقابله بعد ؟؟
أجاب المتسول : لا .. أين هو ؟
فأشار ذلك المسن قائلا : انه هناك .. ذلك الوسيم ذو البدلة السوداء .. ثم أكمل ضاحكا بسخريه : ألا ترى كيف تتجمع النساء من حوله ؟ .
التفت أنا لأرى ابن رئيس الحي ذاك .. لأتفاجأ بشده حين وجدت أن ابن رئيس الحي ليس سوى ذلك الملاك الأنيق الذي رماني المطر في أحضانه قبل عدة أيام , وقتها أردت الخروج من ذلك المكان بسرعه قبل أن ينتبه لوجودي , وكم كرهت ذلك المسن المتطفل الذي زاد من ارتباكي حين صرخ مناديا ذلك الأنيق ليجعل المتسول يلقي عليه التحيه , من ما جعل الأنيق ينتبه لوجودي وينظر لي ’ ثم أخذ يتقدم بين جموع الناس حوله محاولا شق طريقه نحونا, فوجدت نفسي لا شعوريا أركض هربا , وذلك المتسول يناديني ويلحق بي حتى أخذت أتسلل بين الناس حول خشبة ذلك المسرح الذي يعلوه أحد المهرجين في محاوله مني للابتعاد عن نظر ذلك الأنيق الذي أراه عن بعد وهو يبحث بعينيه عني , أما المتسول فأخذ أيضا يتسلل بين الناس حول المسرح محاولا اللحاق بي ..
ومن سوء حظي أن ذلك المهرج الذي يعلو المسرح بدأ يسحبني ويطلب مني الصعود على خشبة العرض , فسحبت يدي لأتراجع , ولكن الناس حول المسرح أخذوا يصفقون ويدفعوني لأصعد , فاضطررت مجبره الى الصعود لأجد المهرج قد جلب مكبر الصوت وقام بوضعه أمامي ثم طلب مني بإشاراته المضحكه أن أقوم بالغناء .
ولكن صوت نبضات قلبي المتسارعه زادت الطين بله حين بدت مسموعه عبر مكبر الصوت ذاك ما جعل الناس تضحك بشده , وجعل المهرج يخرج زهرة حمراء من قبعته ويعطيني اياها .. ثم اشار لي بطرافه أن أجعل حنجرتي تغني لا قلبي .
توقفت صامته لثواني أسمع تلك الضحكات العاليه وانا في غاية الاحراج , ثم رفعت عيناي لأنظر لذلك الأنيق وهو يراقبني هناك .. كان صوت نبضات قلبي يتعالى كلما نظرت اليه , فأخبرت نفسي بأني حقا أكره احراج نفسي للمرة الثانية أمامه , فأمسكت مكبر الصوت وأشرت للمهرج أن ينتظر قليلا ,ثم قربت مكبر الصوت من قلبي الذي كان ينبض بشده لأنقل صوت نبضاته للناس التي أخذت تضحك ظنا منها أني أعاند المهرج , ثم قربت المكبر من فمي ووضعت يدي على قلبي وقلت :
يا نبضا يسأل عن الحب..
يا نبضي الطارق...
ابقى تحت أمري..
ولا تضرب في حنايا صدري..
ان كنت في قلبي المغرور عالق...
يا من تثور بين ضلوعي ..
توقف عن خيانتي ...
أعطيتك اسمي ..
وأبقاك الكبرياء تحت وصايتي...
فوهبتك قلبي..
وربيتك نبضا لسيادتي...
مُلكا لي وحدي..
مُلكا لسعادتي ...
فان أحببت غيري !!..
نفيتك ..
قتلتك ..
جعلت منك جنايتي ...
ذلك انذاري.. وان كنت نبضي! ..
فلا نبضا يعلو كرامتي ...
ترى كيف تقبلت جموع الناس كلماتي تلك , وهل سيسمح غروري لذلك الأنيق بالاقتراب مني ؟ أم سيكون لشيطاني المتسول رأيا آخر ؟؟ ! .. بين (ملاكٍ وشيطان) كيف سأعيش القادم من (شتاء قلبي) ؟؟؟
تابعوني
بقلمي
سيدة القصر
(سارة بنت طلال)